فصل: تفسير الآية رقم (44)

صباحاً 9 :22
/ﻪـ 
1446
جمادى الاخرة
19
الجمعة
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرآن العظيم ***


تفسير الآية رقم ‏[‏25‏]‏

‏{‏رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا‏}‏

قال سعيد بن جبير‏:‏ هو الرجل تكون منه البادرة إلى أبويه، وفي نيته وقلبه أنه لا يؤخذ به -وفي رواية‏:‏ لا يريد إلا الخير بذلك -فقال‏:‏ ‏{‏رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ‏}‏

وقوله ‏[‏تعالى‏]‏‏:‏ ‏{‏فَإِنَّهُ كَانَ لِلأوَّابِينَ غَفُورًا‏}‏ قال قتادة‏:‏ للمطيعين أهل الصلاة‏.‏

وعن ابن عباس‏:‏ المسبحين‏.‏ وفي رواية عنه‏:‏ المطيعين المحسنين‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ هم الذين يصلون بين العشاءين‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ هم الذين يصلون الضحى‏.‏

وقال شعبة، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب في قوله‏:‏ ‏{‏‏[‏فَإِنَّهُ‏]‏ كَانَ لِلأوَّابِينَ غَفُورًا‏}‏ قال‏:‏ الذي يصيب الذنب ثم يتوب، ويصيب الذنب ثم يتوب‏.‏

وكذا رواه عبد الرزاق، عن الثوري ومعمر، عن يحيى بن سعيد، عن ابن المسيب نحوه، وكذا رواه الليث وابن جريج، عن يحيى بن سعيد، عن ابن‏]‏ المسيب، به وكذا قال عطاء بن يسار‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏26 - 27‏]‏

‏{‏وَآَتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا‏}‏

وقال مجاهد، وسعيد بن جبير‏:‏ هم الراجعون إلى الخير‏.‏

وقال مجاهد عن عبيد بن عمير في قوله‏:‏ ‏{‏فَإِنَّهُ كَانَ لِلأوَّابِينَ غَفُورًا‏}‏ قال‏:‏ هو الذي إذا ذكر ذنوبه في الخلاء فيستغفر الله منها‏.‏ ووافقه على ذلك مجاهد‏.‏

وقال عبد الرزاق‏:‏ أخبرنا محمد بن مسلم، عن عمرو بن دينار، عن عبيد بن عمير، في قوله‏:‏ ‏{‏فَإِنَّهُ كَانَ لِلأوَّابِينَ غَفُورًا‏}‏ قال‏:‏ كنا نعد الأواب الحفيظ، أن يقول‏:‏ اللهم اغفر لي ما أصبت في مجلسي هذا‏.‏

وقال ابن جرير‏:‏ والأولى في ذلك قول من قال‏:‏ هو التائب من الذنب، الراجع عن المعصية إلى الطاعة، مما يكره الله إلى ما يحبه ويرضاه‏.‏

وهذا الذي قاله هو الصواب؛ لأن الأواب مشتق من الأوب وهو الرجوع، يقال‏:‏ آب فلان إذا رجع، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ‏}‏ ‏[‏الغاشية‏:‏ 25‏]‏، وفي الحديث الصحيح، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا رجع من سفر قال ‏:‏ آيبون تائبون عابدون، لربنا حامدون‏"‏‏.‏

‏{‏وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏28‏]‏

‏{‏وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا‏}‏

لما ذكر تعالى بر الوالدين، عطف بذكر الإحسان إلى القرابة وصلة الأرحام، كما تقدم في الحديث‏:‏ ‏"‏أمك وأباك، ثم أدناك أدناك‏"‏ وفي رواية‏:‏ ‏"‏ثم الأقرب فالأقرب‏"‏‏.‏

وفي الحديث‏:‏ ‏"‏من أحب أن يبسط له رزقه وينسأ له في أجله، فليصل رحمه‏"‏‏.‏

وقال الحافظ أبو بكر البزار‏:‏ حدثنا عباد بن يعقوب، حدثنا أبو يحيى التيمي حدثنا فضيل بن مرزوق، عن عطية، عن أبي سعيد قال لما نزلت، هذه الآية ‏{‏وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ‏}‏ دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمة فأعطاها ‏"‏فدك‏"‏‏.‏ ثم قال‏:‏ لا نعلم حدث به عن فضيل بن مرزوق إلا أبو يحيى التيمي وحميد بن حماد بن أبي الخوار ‏.‏وهذا الحديث مشكل لو صح إسناده؛ لأن الآية مكية، وفدك إنما فتحت مع خيبر سنة سبع من الهجرة فكيف يلتئم هذا مع هذا‏؟‏‏!‏

وقد تقدم الكلام على المساكين وابن السبيل في ‏"‏سورة براءة‏"‏ بما أغنى عن إعادته هاهنا‏.‏

قوله ‏[‏تعالى‏]‏ ‏{‏وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا‏}‏ لما أمر بالإنفاق نهى عن الإسراف فيه، بل يكون وسطًا، كما قال في الآية الأخرى‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 67‏]‏‏.‏

ثم قال‏:‏ منفرًا عن التبذير والسرف‏:‏ ‏{‏إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ‏}‏ أي‏:‏ أشباههم في ذلك‏.‏

وقال ابن مسعود‏:‏ التبذير‏:‏ الإنفاق في غير حق‏.‏ وكذا قال ابن عباس‏.‏

وقال مجاهد‏:‏ لو أنفق إنسان ماله كله في الحق، لم يكن مبذرًا، ولو أنفق مدًا في غير حقه كان تبذيرًا‏.‏

وقال قتادة‏:‏ التبذير‏:‏ النفقة في معصية الله تعالى، وفي غير الحق وفي الفساد‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا هاشم بن القاسم، حدثنا لَيْث، عن خالد بن يزيد، عن سعيد بن أبى هلال، عن أنس بن مالك أنه قال‏:‏ أتى رجل من بني تميم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ يا رسول الله، إني ذو مال كثير، وذو أهل وولد وحاضرة، فأخبرني كيف أنفق وكيف أصنع‏؟‏ فقال‏:‏ رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏تخرج الزكاة من مالك، فإنها طهرة تطهرك، وتصل أقرباءك، وتعرف حق السائل والجار والمسكين ‏"‏‏.‏ فقال‏:‏ يا رسول الله، أقلل لي‏؟‏ فقال‏:‏ ‏{‏وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا‏}‏ فقال‏:‏ ‏:‏ حسبي يا رسول الله، إذا أديت الزكاة إلى رسولك فقد برئت منها إلى الله وإلى رسوله‏؟‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏نعم، إذا أديتها إلى رسولي فقد برئت منها، فلك أجرها، وإثمها على من بدلها‏"‏‏.‏

وقوله ‏[‏تعالى‏]‏ ‏{‏إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ‏}‏ أي‏:‏ في التبذير والسفه وترك طاعة الله وارتكاب معصيته؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا‏}‏ أي‏:‏ جحودًا؛ لأنه أنكر نعمة الله عليه ولم يعمل بطاعته؛ بل أقبل على معصيته ومخالفته‏.‏

وقوله ‏[‏تعالى‏]‏ ‏{‏وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلا مَيْسُورًا‏}‏ أي‏:‏ وإذا سألك أقاربك ومن أمرنا بإعطائهم وليس عندك شيء، وأعرضت عنهم لفقد النفقة ‏{‏فَقُلْ لَهُمْ قَوْلا مَيْسُورًا‏}‏ أي‏:‏ عدهم وعدًا بسهولة، ولين إذا جاء رزق الله فسنصلكم إن شاء الله، هكذا فسر قوله ‏{‏فَقُلْ لَهُمْ قَوْلا مَيْسُورًا‏}‏ بالوعد‏:‏ مجاهد، وعكرمة، وسعيد بن جبير، والحسن، وقتادة وغير واحد‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏29 - 30‏]‏

‏{‏وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا‏}‏

يقول تعالى آمرًا بالاقتصاد في العيش ذامّا للبخل ناهيًا عن السَّرَف‏:‏ ‏{‏وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ‏}‏ أي‏:‏ لا تكن بخيلا منوعًا، لا تعطي أحدًا شيئًا، كما قالت اليهود عليهم لعائن الله‏:‏ ‏{‏يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 64‏]‏ أي نسبوه إلى البخل، تعالى وتقدس الكريم الوهاب‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ‏}‏ أي‏:‏ ولا تسرف في الإنفاق فتعطي فوق طاقتك، وتخرج أكثر من دخلك، فتقعد ملومًا محسورًا‏.‏

وهذا من باب اللف والنشر أي‏:‏ فتقعد إن بخلت ملومًا، يلومك الناس ويذمونك ويستغنون عنك كما قال زهير بن أبي سُلمى في المعلقة‏:‏

ومن كان ذا مال ويبخل بماله *** على قومه يستغن عنه ويذمم

ومتى بسطت يدك فوق طاقتك، قعدت بلا شيء تنفقه، فتكون كالحسير، وهو‏:‏ الدابة التي قد عجزت عن السير، فوقفت ضعفًا وعجزًا فإنها تسمى الحسير، وهو مأخوذ من الكلال، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 3، 4‏]‏ أي‏:‏ كليل عن أن يرى عيبًا‏.‏ هكذا فسر هذه الآية -بأن المراد هنا البخل والسرف -ابن عباس والحسن وقتادة وابن جريج وابن زيد وغيرهم‏.‏

وقد جاء في الصحيحين، من حديث أبي الزِّنَاد، عن الأعرج، عن أبي هريرة؛ أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏مثل البخيل والمنفق، كمثل رجلين عليهما جبتان من حديد من ثدييهما إلى تراقيهما‏.‏ فأما المنفق فلا ينفق إلا سَبَغَت -أو‏:‏ وفرت -على جلده، حتى تُخفي بنانه وتعفو أثره‏.‏ وأما البخيل فلا يريد أن ينفق شيئًا إلا لزقت كل حلقة مكانها، فهو يوسعها فلا تتسع‏"‏‏.‏ هذا لفظ البخاري في الزكاة‏.‏

وفي الصحيحين من طريق هشام بن عُرْوَةَ، عن زوجته فاطمة بنت المنذر، عن جدتها أسماء بنت أبي بكر قالت‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏أنفقي هكذا وهكذا وهكذا، ولا تُوعِي فَيُوعي الله عليك، ولا توكي فيوكي الله عليك‏"‏ وفي لفظ‏:‏ ‏"‏ولا تُحصي فيحصي الله عليك‏"‏‏.‏

وفي صحيح مسلم من طريق عبد الرزاق، عن معمر، عن همام، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إن الله قال لي‏:‏ أنفق أنفق عليك‏"‏‏.‏

وفي الصحيحين من طريق معاوية بن أبي مُزَرِّد، عن سعيد بن يسار، عن أبي هريرة رضي

الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ما من يوم يصبح العباد فيه إلا وملكان ينزلان من السماء يقول أحدهما‏:‏ اللهم أعط منفقًا خلفًا، ويقول الآخر‏:‏ اللهم أعط ممسكًا تلفًا‏"‏‏.‏

وروى مسلم، عن قتيبة، عن إسماعيل بن جعفر، عن العلاء عن أبيه، عن أبي هريرة مرفوعًا‏:‏ ‏"‏ما نقص مال من صدقة، وما زاد الله عبدًا بعفو إلا عزًا ومن تواضع لله رفعه الله‏"‏‏.‏

وفي حديث أبي كثير، عن عبد الله بن عمرو مرفوعًا‏:‏ ‏"‏إياكم والشُّح، فإنه أهلك من كان قبلكم، أمرهم بالبخل فبخلوا، وأمرهم بالقطيعة فقطعوا، وأمرهم بالفجور ففجروا‏"‏‏.‏

وروى البيهقي من طريق سعدان بن نصر، عن أبي معاوية، عن الأعمش، ‏[‏عن ابن بريدة‏]‏ عن أبيه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ما يخرج رجل صدقة، حتى يفك لَحْيَى سبعين شيطانا‏"‏‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا أبو عبيدة الحداد، حدثنا سُكَين بن عبد العزيز، حدثنا إبراهيم الهجري، عن أبي الأحوص، عن عبد الله بن مسعوده قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ما عال من اقتصد‏"‏‏.‏

وقوله ‏[‏تعالى‏]‏ ‏{‏إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ‏}‏ إخبار أنه تعالى هو الرزاق، القابض الباسط، المتصرف في خلقه بما يشاء، فيغني من يشاء، ويفقر من يشاء، بما له في ذلك من الحكمة؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا‏}‏ أي‏:‏ خبير بصير بمن يستحق الغنى ومن يستحق الفقر، كما جاء في الحديث‏:‏ ‏"‏إن من عبادي من لا يصلحه إلا الفقر، ولو أغنيته لأفسدت عليه دينه، وإن من عبادي لمن لا يصلحه إلا الغنى، ولو أفقرته لأفسدت عليه دينه‏"‏‏.‏

وقد يكون الغنى في حق بعض الناس استدراجًا، والفقر عقوبة عياذًا بالله من هذا وهذا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏31‏]‏

‏{‏وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا‏}‏

هذه الآية الكريمة دالة على أن الله تعالى أرحم بعباده من الوالد بولده؛ لأنه ينهى ‏[‏تعالى‏]‏

عن قتل الأولاد، كما أوصى بالأولاد في الميراث، وكان أهل الجاهلية لا يورثون البنات، بل كان أحدهم ربما قتل ابنته لئلا تكثر عيلته، فنهى الله ‏[‏تعالى‏]‏ عن ذلك فقال‏:‏ ‏{‏وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ‏}‏ أي‏:‏ خوف أن تفتقروا في ثاني الحال؛ ولهذا قدم الاهتمام برزقهم فقال‏:‏ ‏{‏نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ‏}‏ وفي الأنعام ‏{‏وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ‏}‏ أي‏:‏ من فقر ‏{‏نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ ‏[‏الأنعام‏:‏ 151‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا‏}‏ أي‏:‏ ذنبًا عظيمًا‏.‏

وقرأ بعضهم‏:‏ ‏"‏كان خَطَأً كبيرًا‏"‏ وهو بمعناه‏.‏

وفي الصحيحين عن عبد الله بن مسعود‏:‏ قلت‏:‏ يا رسول الله، أي الذنب أعظم‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏أن تجعل لله ندًا وهو خلقك‏"‏‏.‏ قلت‏:‏ثم أي‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏أن تقتل ولدك خشية أن يَطْعَمَ معك‏"‏‏.‏ قلت‏:‏ ثم أي‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏أن تزاني بحليلة جارك‏"‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏32‏]‏

‏{‏وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا‏}‏

يقول تعالى ناهيًا عباده عن الزنا وعن مقاربته، وهو مخالطة أسبابه ودواعيه ‏{‏وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً‏}‏ أي‏:‏ ذنبًا عظيمًا ‏{‏وَسَاءَ سَبِيلا‏}‏ أي‏:‏ وبئس طريقًا ومسلكًا‏.‏

وقد قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا يزيد بن هارون، حدثنا جرير، حدثنا سليم بن عامر، عن أبي أمامة قال‏:‏ إن فتى شابًا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ يا رسول الله، ائذن لي بالزنا‏.‏ فأقبل القوم عليه فزجروه، وقالوا‏:‏ مًهْ مَهْ‏.‏ فقال‏:‏ ‏"‏ادنه‏"‏‏.‏ فدنا منه قريبًا فقال اجلس‏"‏‏.‏ فجلس، قال‏:‏ ‏"‏أتحبه لأمك‏؟‏‏"‏ قال‏:‏ لا والله، جعلني الله فداك‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏ولا الناس يحبونه لأمهاتهم‏"‏‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏أفتحبه لابنتك‏"‏‏؟‏ قال‏:‏ لا والله يا رسول الله، جعلني الله فداك‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏ولا الناس يحبونه لبناتهم‏"‏، قال‏:‏ ‏"‏أتحبه لأختك‏"‏‏؟‏ قال‏:‏ لا والله، جعلني الله فداك‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏ولا الناس يحبونه لأخواتهم‏"‏، قال‏:‏ ‏"‏أفتحبه لعمتك‏"‏‏؟‏ قال‏:‏ لا والله جعلني الله فداك‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏ولا الناس يحبونه لعماتهم‏"‏ قال‏:‏ ‏"‏أفتحبه لخالتك‏"‏‏؟‏ قال‏:‏ لا والله، جعلني الله فداك‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏ولا الناس يحبونه لخالاتهم‏"‏ قال‏:‏ فوضع يده عليه وقال‏:‏ ‏"‏اللهم اغفر ذنبه وطهر قلبه وحصن فرجه‏"‏ قال‏:‏ فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء‏.‏

وقال ابن أبي الدنيا‏:‏ حدثنا عمار بن نصر، حدثنا بَقيَّةُ، عن أبي بكر بن أبي مريم، عن الهيثم بن مالك الطائي، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ما من ذنب بعد الشرك أعظم عند الله من نطفة وضعها رجل في رحم لا يحل له‏"‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏33‏]‏

‏{‏وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا‏}‏

يقول تعالى ناهيًا عن قتل النفس بغير حق شرعي، كما ثبت في الصحيحين؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله إلا بإحدى ثلاث‏:‏ النفس بالنفس، والزاني المحصن، والتارك لدينه المفارق للجماعة‏"‏‏.‏

وفي السنن‏:‏ ‏"‏لزوال الدنيا أهون عند الله من قتل مسلم‏"‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا‏}‏ أي‏:‏ سلطة على القاتل، فإنه بالخيار فيه إن شاء قتله قَودًا، وإن شاء عفا عنه على الدية، وإن شاء عفا عنه مجانًا، كما ثبتت السنة بذلك‏.‏ وقد أخذ الإمام الحبر ابن عباس من عموم هذه الآية الكريمة ولاية معاوية السلطنة، وأنه سيملك؛ لأنه كان ولي عثمان، وقد قتل عثمان مظلومًا، رضي الله عنه، وكان معاوية يطالب عليًا، رضي الله عنه، أن يسلمه قتلته حتى يقتص منهم؛ لأنه أموي، وكان علي، رضي الله عنه، يستمهله في الأمر حتى يتمكن ويفعل ذلك، ويطلب علي من معاوية أن يسلمه الشام فيأبى معاوية ذلك حتى يسلمه القتلة، وأبى أن يبايع عليًا هو وأهل الشام، ثم مع المطاولة تمكن معاوية وصار الأمر إليه كما تفاءل ابن عباس واستنبط من هذه الآية الكريمة‏.‏ وهذا من الأمر العجب وقد روى ذلك الطبراني في معجمه حيث قال‏:‏ حدثنا يحيى بن عبد الباقي، حدثنا أبو عمير بن النحاس، حدثنا ضَمْرَةُ بن ربيعة، عن ابن شوذب، عن مطر الوراق، عن زَهْدَم الجَرْمي قال‏:‏ كنا في سمر ابن عباس فقال‏:‏ إني محدثكم حديثا ليس بسر ولا علانية؛ إنه لما كان من أمر هذا الرجل ما كان -يعني عثمان -قلت لعلي‏:‏ اعتزل فلو كنت في جحر طلبت حتى تستخرج، فعصاني، وايم الله ليتأمرن عليكم معاوية، وذلك أن الله تعالى يقول‏:‏ ‏{‏وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ‏}‏ الآية وليحملنكم قريش على سنة فارس والروم وليقيمن عليكم النصارى واليهود والمجوس، فمن أخذ منكم يومئذ بما يُعْرَف نجا، ومن ترك وأنتم تاركون، كنتم كقرن من القرون، هلك فيمن هلك‏.‏

وقوله ‏[‏تعالى‏]‏ ‏{‏فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ‏}‏ قالوا‏:‏ معناه‏:‏ فلا يسرف الولي في قتل القاتل بأن يمثل به أو يقتص من غير القاتل‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا‏}‏ أي أن الولي منصور على القاتل شرعًا، وغالبًا قدرًا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏34 - 35‏]‏

‏{‏وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا‏}‏

يقول تعالى‏:‏ ‏{‏وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ‏}‏ أي‏:‏ لا تتصرفوا له إلا بالغبطة ‏{‏وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 2‏]‏ و‏{‏لا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 6‏]‏‏.‏

وقد جاء في صحيح مسلم؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبي ذر‏:‏ ‏"‏يا أبا ذر، إني أراك ضعيفًا، وإني أحب لك ما أحب لنفسي‏:‏ لا تَأَمَّرَن على اثنين، ولا تولين مال يتيم ‏"‏‏.‏

وقوله ‏[‏تعالى‏]‏‏:‏ ‏{‏وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ‏}‏ أي الذي تعاهدون عليه الناس والعقود التي تعاملونهم بها، فإن العهد والعقد كل منهما يسأل صاحبه عنه ‏{‏إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولا‏}‏ أي‏:‏ عنه‏.‏

وقوله ‏[‏تعالى‏]‏‏:‏ ‏{‏وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ‏}‏ أي‏:‏ من غير تطفيف، ولا تبخسوا الناس أشياءهم‏.‏ ‏{‏وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ‏}‏ قرئ بضم القاف وكسرها، كالقرطاس وهو الميزان‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ هو العدل بالرومية‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏الْمُسْتَقِيمِ‏}‏ أي‏:‏ الذي لا اعوجاج فيه ولا انحراف ولا اضطراب‏.‏

‏{‏ذَلِكَ خَيْرٌ‏}‏ أي‏:‏ لكم في معاشكم ومعادكم؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا‏}‏ أي‏:‏ مآلا ومنقلبًا في آخرتكم‏.‏

قال‏:‏ سعيد، عن قتادة‏:‏ ‏{‏ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا‏}‏ أي‏:‏ خير ثوابًا وعاقبة‏.‏ وأما ابن عباس كان يقول‏:‏ يا معشر الموالي، إنكم وليتم أمرين بهما هلك الناس قبلكم‏:‏ هذا المكيال، وهذا الميزان‏.‏ قال وذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول‏:‏ ‏"‏لا يقدر رجل على حرام ثم يدعه، ليس به إلا مخافة الله، إلا أبدله الله في عاجل الدنيا قبل الآخرة ما هو خير له من ذلك‏"‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏36‏]‏

‏{‏وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولا‏}‏

قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس‏:‏ يقول‏:‏ لا تقل‏.‏

وقال العوفي عنه‏:‏ لا تَرْم أحدًا بما ليس لك به علم‏.‏

وقال محمد بن الحَنفية‏:‏ يعني شهادة الزور‏.‏

وقال قتادة‏:‏ لا تقل‏:‏ رأيت، ولم تر، وسمعت، ولم تسمع، وعلمت، ولم تعلم؛ فإن الله سائلك عن ذلك كله‏.‏

ومضمون ما ذكروه‏:‏ أن الله تعالى نهى عن القول بلا علم، بل بالظن الذي هو التوهم والخيال، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏ 12‏]‏، وفي الحديث‏:‏ ‏"‏إياكم والظن؛ فإن الظن أكذبُ الحديث‏"‏ ‏.‏ وفي سنن أبي داود‏:‏ ‏"‏بئس مطيةُ الرجل‏:‏ زعموا‏"‏ ، وفي الحديث الآخر‏:‏ ‏"‏إن أفرى الفِرَى أن يُرِي عينيه ما لم تريا‏"‏ ‏.‏ وفي الصحيح‏:‏ ‏"‏من تحلم حلما كُلف يوم القيامة أن يعقد بين شَعيرتين، وليس بعاقد ‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏كُلُّ أُولَئِكَ‏}‏ أي‏:‏ هذه الصفات من السمع والبصر والفؤاد ‏{‏كَانَ عَنْهُ مَسْئُولا‏}‏ أي‏:‏ سيسأل العبد عنها يوم القيامة، وتُسأل عنه وعما عمل فيها‏.‏ ويصح استعمال ‏"‏أولئك‏"‏ مكان ‏"‏تلك‏"‏، كما قال الشاعر‏.‏

ذُمَّ المَنَازلَ بَعْدَ مَنزلة اللِّوَى *** وَالْعَيْش بَعْدَ أولئِكَ الأيّام

تفسير الآيات رقم ‏[‏37 - 38‏]‏

‏{‏وَلا تَمْشِ فِي الأرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولا كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا‏}‏‏.‏

يقول تعالى ناهيًا عباده، عن التَّجَبّر والتبختر في المشية‏:‏ ‏{‏وَلا تَمْشِ فِي الأرْضِ مَرَحًا‏}‏ أي‏:‏ متبخترًا متمايلا مشي الجَبَّارين ‏{‏إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأرْضَ‏}‏ أي‏:‏ لن تقطع الأرض بمشيتك قاله ابن جرير، واستشهد عليه بقول رُؤبة بن العَجَّاج‏:‏

وقَاتِم الأعْمَاق خَاوي المُخترقْ ***

وقوله ‏[‏تعالى‏]‏‏:‏ ‏{‏وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولا‏}‏ أي‏:‏ بتمايلك وفخرك وإعجابك بنفسك، بل قد

يجازى فاعل ذلك بنقيض قصده‏.‏ كما ثبت في الصحيح‏:‏ ‏"‏بينما رجل يمشي فيمن كان قبلكم، وعليه بُرْدَان يتبختر فيهما، إذ خُسِف به الأرض، فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة‏"‏‏.‏

وكذلك أخبر الله ‏[‏تعالى‏]‏ عن قارون أنه خرج على قومه في زينته، وأن الله تعالى خسف به وبداره الأرض، وفي الحديث‏:‏ ‏"‏من تواضع لله رفعه الله، فهو في نفسه حقير وعند الناس كبير، ومن استكبر وضعه الله، فهو في نفسه كبير وعند الناس حقير، حتى لهو أبغض إليهم من الكلب أو الخنزير‏"‏‏.‏

وقال أبو بكر بن أبي الدنيا في كتاب ‏"‏الخمول والتواضع‏"‏‏:‏ حدثنا أحمد بن إبراهيم بن كثير، حدثنا حجاج بن محمد، بن أبي بكر الهذلي قال‏:‏ بينما نحن مع الحسن، إذ مَر عليه ابن الأهتم -يريد المنصور -وعليه جبَابُ خَزّ قد نُضّد بعضها فوق بعض على ساقه، وانفرج عنها قباؤه، وهو يمشي ويتبختر، إذ نظر إليه الحسن نظرة فقال‏:‏ أف أف، شامخ بأنفه، ثان عطفه، مصعر خده، ينظر في عطفيه، أيّ حُمَيْق ينظر في عطفه في نِعَم غير مشكورة ولا مذكورة، غير المأخوذ بأمر الله فيها، ولا المؤدّى حقّ الله منها‏!‏ والله إن يمشي أحدهم طبيعته يتلجلج تلجلج المجنون، في كل عضو منه نعمة، وللشيطان به لعنة، فسمعه ابن الأهتم فرجع يعتذر إليه، فقال‏:‏ لا تعتذر إلي، وتب إلى ربك، أما سمعت قول الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلا تَمْشِ فِي الأرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولا‏}‏‏.‏

ورأى البختريّ العابدُ رجلا من آل علي يمشي وهو يخطِر في مشيته، فقال له‏:‏ يا هذا، إن الذي أكرمك به لم تكن هذه مشيته‏!‏ قال‏:‏ فتركها الرجل بعد‏.‏

ورأى ابن عمر رجلا يخطر في مشيته، فقال‏:‏ إن للشياطين إخوانًا‏.‏

وقال‏:‏ خالد بن مَعْدان‏:‏ إياكم والخَطْر، فإن الرّجل يَدُه من سائر جسده‏.‏ رواهما ابن أبي الدنيا‏.‏

وقال‏:‏ ابن أبي الدنيا‏:‏ حدثنا خلف بن هشام البزار، حدثنا حماد بن زيد، عن يحيى، عن سعيد، عن يُحَنَّس قال‏:‏ قال‏:‏ رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إذا مشت أمتي المطيطاء، وخدمتهم فارس والروم،سلط بعضهم على بعض‏"‏‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا‏}‏ أما من قرأ ‏"‏سيئة‏"‏ أي‏:‏ فاحشة‏.‏ فمعناه عنده‏:‏ كل هذا الذي نهينا عنه، من قوله‏:‏ ‏{‏وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ‏}‏ إلى هاهنا، فهو سيئة مؤاخذ عليها ‏{‏مَكْرُوهًا‏}‏ عند الله، لا يحبه ولا يرضاه‏.‏

وأما من قرأ ‏{‏سَيِّئُهُ‏}‏ على الإضافة فمعناه عنده‏:‏ كل هذا الذي ذكرناه من قوله‏:‏ ‏{‏وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ‏}‏ إلى هاهنا فسيئه، أي‏:‏ فقبيحه مكروه عند الله، هكذا وجَّه ذلك ابن جرير، رحمه الله‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏39‏]‏

‏{‏ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا‏}‏

يقول تعالى‏:‏ هذا الذي أمرناك به من الأخلاق الجميلة، ونهيناك عنه من الصفات الرذيلة، مما أوحينا إليك يا محمد لتأمر به الناس‏.‏

‏{‏وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا‏}‏ أي‏:‏ تلومك نفسك ‏[‏ويلومك الله‏]‏ والخلق‏.‏ ‏{‏مَدْحُورًا‏}‏‏.‏ قال ابن عباس وقتادة‏:‏ مطرودًا‏.‏

والمراد من هذا الخطاب الأمة بواسطة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فإنه صلوات الله وسلامه عليه معصوم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏40‏]‏

‏{‏أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلا عَظِيمًا‏}‏

يقول تعالى رادًا على المشركين الكاذبين الزاعمين -عليهم لعائن الله -أن الملائكة بناتُ الله، فجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثًا، ثم ادّعوا أنهم بنات الله، ثم عبدوهم فأخطئوا في كل من المقامات الثلاث خطأ عظيمًا، قال تعالى منكرًا عليهم‏:‏ ‏{‏أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ‏}‏ أي‏:‏ خصصكم بالذكور ‏{‏وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِنَاثًا‏}‏ أي‏:‏ اختار لنفسه على زعمكم البنات‏؟‏ ثم شدد الإنكار عليهم فقال‏:‏ ‏{‏إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلا عَظِيمًا‏}‏ أي‏:‏ في زعمكم لله ولدًا، ثم جعْلكم ولده الإناث التي تأنفون أن يَكُنّ لكم، وربما قتلتموهُن بالوأد، فتلك إذا قسْمة ضِيزَى‏.‏ وقال ‏[‏الله‏]‏ تعالى‏:‏ ‏{‏وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الأرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ إِلا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 88 -95‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏41‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلا نُفُورًا‏}‏

يقول تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا أي‏:‏ صرفنا فيه من الوعيد لعلهم يذكرون ما فيه من الحجج والبينات والمواعظ، فينزجروا عما هم فيه من الشرك والظلم والإفك، ‏{‏وَمَا يَزِيدُهُمْ‏}‏ أي‏:‏ الظالمين منهم ‏{‏إِلا نُفُورًا‏}‏ أي‏:‏ عن الحق، وبعدًا منه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏42 - 43‏]‏

‏{‏قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلا سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا‏}‏

يقول تعالى‏:‏ قل يا محمد لهؤلاء المشركين الزاعمين أن لله شريكا من خلقه، العابدين معه غيره ليقربهم إليه زلفى‏:‏ لو كان الأمر كما تقولون، وأن معه آلهة تعبد لتقرب إليه وتشفع لديه -لكان أولئك المعبودون يعبدونه ويتقربون إليه ويبتغون إليه الوسيلة والقربة، فاعبدوه أنتم وحده كما يعبده من تدعونه من دونه، ولا حاجة لكم إلى معبود يكون واسطة بينكم وبينه، فإنه لا يحب ذلك ولا يرضاه، بل يكرهه ويأباه‏.‏ وقد نهى عن ذلك على ألسنة جميع رسله وأنبيائه‏.‏

ثم نزه نفسه الكريمة وقدّسها فقال‏:‏ ‏{‏سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ‏}‏ أي‏:‏ هؤلاء المشركون المعتدون الظالمون في زعمهم أن معه آلهة أخرى ‏{‏عُلُوًّا كَبِيرًا‏}‏ أي‏:‏ تعاليًا كبيرا، بل هو الله الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كُفُوًا أحد‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏44‏]‏

‏{‏تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا‏}‏

يقول تعالى‏:‏ تقدسه السموات السبع والأرض ومن فيهن، أي‏:‏ من المخلوقات، وتنزهه وتعظمه وتجِّلّه وتكبره عما يقول هؤلاء المشركون، وتشهد له بالوحدانية في ربوبيته وإلهيته‏:‏

فَفي كُلّ شَيءٍ لَهُ آيَةٌ *** تَدُلُّ عَلى أنَّه واحد

كما قال‏:‏ تعالى‏:‏ ‏{‏تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الأرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا ‏[‏وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا‏]‏ ‏[‏مريم‏:‏ 90 -92‏]‏‏.‏

وقال أبو القاسم الطبراني‏:‏ حدثنا علي بن عبد العزيز، حدثنا سعيد بن منصور، حدثنا مسكين ابن ميمون مؤذّن مسجد الرملة، حدثنا عروة بن رُوَيم، عن عبد الرحمن بن قرط؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلمليلة أسري إلى المسجد الأقصى، كان بين المقام وزمزم، جبريل عن يمينه وميكائيل عن يساره، فطار به حتى بلغ السماوات السبع ، فلما رجع قال‏:‏ سمعت تسبيحًا في السماوات العلى مع تسبيح كثير‏:‏ سبحت السماوات العلى من ذي المهابة مشفقات لذي العلو بما علا سبحان العليّ الأعلى، سبحانه وتعالى‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ‏}‏ أي‏:‏ وما من شيء من المخلوقات إلا يسبح بحمد الله ‏{‏وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ‏}‏ أي‏:‏ لا تفقهون تسبيحهم أيها الناس؛ لأنها بخلاف لغتكم‏.‏ وهذا عام في الحيوانات والنبات والجماد، وهذا أشهر القولين، كما ثبت في صحيح البخاري، عن ابن مسعود أنه قال‏:‏ كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يُؤكل‏.‏

وفي حديث أبي ذر‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ في يده حصيات، فسمع لهن تسبيح كحنين النحل، وكذا يد أبي بكر وعمر وعثمان، رضي الله عنهم ‏[‏أجمعين‏]‏ ، وهو حديث مشهور في المسانيد‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا ابن لَهيعة، حدثنا زَبَّان، عن سهل بن معاذ بن أنس، عن أبيه رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه مَرّ على قوم وهم وقوف على دوابّ لهم ورواحل، فقال لهم‏:‏ ‏"‏اركبوها سالمة، ودعوها سالمة، ولا تتخذوها كراسي لأحاديثكم في الطرق والأسواق، فرب مركوبة خير من راكبها، وأكثر ذكرا لله منه‏"‏‏.‏

وفي سنن النسائي عن عبد الله بن عمرو قال‏:‏ نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل الضفدع، وقال‏:‏ ‏"‏نقيقها تسبيح‏"‏‏.‏

وقال قتادة، عن عبد الله بن بَابِي ، عن عبد الله بن عمرو‏:‏ أن الرجل إذا قال‏:‏ ‏"‏لا إله إلا الله‏"‏، فهي كلمة الإخلاص التي لا يقبل الله من أحد عملا حتى يقولها‏.‏ وإذا قال‏:‏ ‏"‏الحمد لله‏"‏ فهي كلمة الشكر التي لم يشكر الله عبد قط حتى يقولها، وإذا قال‏:‏ ‏"‏الله أكبر‏"‏ فهي تملأ ما بين السماء والأرض، وإذا قال‏:‏ ‏"‏سبحان الله‏"‏، فهي صلاة الخلائق التي لم يَدْع الله أحدًا من خلقه إلا قَرّره بالصلاة والتسبيح‏.‏ وإذا قال‏:‏ ‏"‏لا حول ولا قوة إلا بالله ‏"‏، قال‏:‏ أسلم عبدي واستسلم‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا وهب بن جرير، حدثنا أبي، سمعت الصَّقْعَبَ بن زُهير ‏[‏يحدث‏]‏ عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن عبد الله بن عمرو قال‏:‏ أتى النبي صلى الله عليه وسلم أعرابيّ عليه جبة

من طيالسة مكفوفة بديباج -أو‏:‏ مزورة بديباج -فقال‏:‏ إن صاحبكم هذا يريد أن يرفع كل راع ابن راع، ويضع كل رأس ابن رأس‏.‏ فقام إليه النبي صلى الله عليه وسلم مغضبًا، فأخذ بمجامع جبته فاجتذبه، فقال‏:‏ ‏"‏لا أرى عليك ثياب من لا يعقل‏"‏‏.‏ ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس فقال‏:‏ ‏"‏إن نوحًا، عليه السلام، لما حضرته الوفاة، دعا ابنيه فقال‏:‏ إني قاص عليكما الوصية‏:‏ آمركما باثنتين وأنهاكما عن اثنتين‏:‏ أنهاكما عن الشرك بالله والكبر، وآمركما بلا إله إلا الله، فإن السماوات والأرض وما بينهما لو وضعت في كفة الميزان، ووضعت ‏"‏لا إله إلا الله‏"‏ في الكفة الأخرى، كانت أرجح، ولو أن السماوات والأرضِ كانتا حلقة، فوضعت ‏"‏لا إله إلا الله‏"‏ عليهما لفصمتهما أو لقصمتهما‏.‏ وآمركما بسبحان الله وبحمده، فإنها صلاة كل شيء، وبها يرزق كل شيء‏"‏‏.‏ ورواه الإمام أحمد، أيضا، عن سليمان بن حرب، عن حماد بن زيد، عن الصَّقْعَب بن زهير، به أطول من هذا‏.‏ تفرد به‏.‏

وقال ابن جرير‏:‏ حدثني نصر بن عبد الرحمن الأوْدِيّ، حدثنا محمد بن يَعْلى، عن موسى بن عبيدة، عن زيد بن أسلم، عن جابر بن عبد الله، رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ألا أخبركم بشيء أمر به نوح ابنه‏؟‏ إن نوحا، عليه السلام، قال لابنه‏:‏ يا بني، آمرك أن تقول‏:‏ ‏"‏سبحان الله‏"‏، فإنها صلاة الخلق وتسبيح الخلق، وبها يرزق الخلق، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ‏}‏ إسناده فيه ضعف، فإن الرّبذي ضعيف عند الأكثرين‏.‏

وقال عكرمة في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ‏}‏ قال‏:‏ الأسطوانة تسبح، والشجرة تسبح -الأسطوانة‏:‏ السارية‏.‏

وقال بعض السلف‏:‏ إن صرير الباب تسبيحه، وخرير الماء تسبيحه، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ‏}‏ وقال سفيان الثوري، عن منصور، عن إبراهيم قال‏:‏ الطعام يسبح‏.‏

ويشهد لهذا القول آية السجدة أول ‏[‏سورة‏]‏ الحج‏.‏

وقال آخرون‏:‏ إنما يسبح ما كان فيه روح‏.‏ يعنون من حيوان أو نبات‏.‏

وقال قتادة في قوله‏:‏ ‏{‏وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ‏}‏ قال‏:‏ كل شيء فيه الروح يسبح من شجر أو شيء فيه‏.‏

وقال الحسن، والضحاك في قوله‏:‏ ‏{‏وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ‏}‏ قالا كل شيء فيه الروح‏.‏

وقال ابن جرير‏:‏ حدثنا محمد بن حميد، حدثنا يحيى بن واضح وزيد بن حباب قالا حدثنا جرير أبو الخطاب قال‏:‏ كنا مع يزيد الرَّقاشي، ومعه الحسن في طعام، فقدموا الخوان، فقال يزيد الرقاشي‏:‏ يا أبا سعيد، يسبح هذا الخِوَان‏؟‏ فقال‏:‏ كان يسبح مرة‏.‏

قلت‏:‏ الخِوَان هو المائدة من الخشب‏.‏ فكأن الحسن، رحمه الله، ذهب إلى أنه لما كان حيا فيه خضرة، كان يسبح، فلما قطع وصار خشبة يابسة انقطع تسبيحه‏.‏ وقد يستأنس لهذا القول بحديث ابن عباس، رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بقبرين فقال‏:‏ ‏"‏إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير ، أما أحدهما فكان لا يَسْتَتر من البول، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة‏"‏‏.‏ ثم أخذ جريدة رطبة، فشقها نصفين، ثم غرز في كل قبر واحدة، ثم قال‏:‏ ‏"‏لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا‏"‏‏.‏ أخرجاه في الصحيحين‏.‏

قال بعض من تكلم على هذا الحديث من العلماء‏:‏ إنما قال‏:‏ ‏"‏ما لم ييبسا‏"‏ لأنهما يسبحان ما دام فيهما خضرة، فإذا يبسا انقطع تسبيحهما، والله أعلم‏.‏

وقوله ‏[‏تعالى‏]‏ ‏{‏إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا‏}‏ أي‏:‏ أنه ‏[‏تعالى‏]‏ لا يعاجل من عصاه بالعقوبة، بل يؤجله وينظره، فإن استمر على كفره وعناده أخذه أخذ عزيز مقتدر، كما جاء في الصحيحين‏:‏ ‏"‏إن الله ليملي للظالم، حتى إذا أخذه لم يفلته‏"‏‏.‏ ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 102‏]‏ الآية، وقال ‏[‏الله‏]‏ تعالى‏:‏ ‏{‏وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 48‏]‏‏.‏ ومن أقلع عما هو فيه من كفر أو عصيان، ورجع إلى الله وتاب إليه، تاب عليه، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 110‏]‏‏.‏

وقال هاهنا‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا‏}‏ كما قال في آخر فاطر‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا‏}‏ إلى أن قال‏:‏ ‏{‏وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 41 -45‏]‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏45 - 46‏]‏

‏{‏وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآَنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آَذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآَنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا‏}‏

يقول تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم‏:‏ وإذا قرأت -يا محمد -على هؤلاء المشركين القرآن، جعلنا بينك وبينهم حجابا مستورًا‏.‏

قال قتادة، وابن زيد‏:‏ هو الأكنّة على قلوبهم، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 5‏]‏ أي‏:‏ مانع حائل أن يصل إلينا مما تقول شيء‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏حِجَابًا مَسْتُورًا‏}‏ أي‏:‏ بمعنى ساتر، كميمون ومشئوم، بمعنى‏:‏ يامن وشائم؛ لأنه من يَمنهم وشَأمَهم‏.‏

وقيل‏:‏ مستورًا عن الأبصار فلا تراه، وهو مع ذلك حجاب بينهم وبين الهدى، ومال إلى ترجيحه ابن جرير، رحمه الله‏.‏

وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي‏:‏ حدثنا أبو موسى الهروي إسحاق بن إبراهيم، حدثنا سفيان، عن الوليد بن كثير، عن يزيد بن تدرس، عن أسماء بنت أبي بكر ‏[‏الصديق‏]‏ رضي الله عنها ، قالت‏:‏ لما نزلت ‏{‏تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَب وَتبٍٍَ‏}‏ ‏[‏سورة المسد‏]‏ جاءت العوراء أم جميل ولها ولوَلة، وفي يدها فِهْر وهي تقول‏:‏ مُدَمَّما أتينا -أو‏:‏ أبينا، قال أبو موسى‏:‏ الشك مني -ودينه قَلَيْنَا، وأمره عصينا‏.‏ ورسول الله جالس، وأبو بكر إلى جنبه -أو قال‏:‏ معه -قال‏:‏ فقال أبو بكر‏:‏ لقد أقبلت هذه وأنا أخاف أن تراك، فقال‏:‏ ‏"‏إنها لن تراني‏"‏، وقرأ قرآنا اعتصم به منها‏:‏ ‏{‏وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا‏}‏‏.‏ قال‏:‏ فجاءت حتى قامت على أبي بكر، فلم تر النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقالت‏:‏ يا أبا بكر، بلغني أن صاحبك هجاني‏.‏ فقال أبو بكر‏:‏ لا ورب هذا البيت ما هجاك‏.‏ قال‏:‏ فانصرفت وهي تقول‏:‏ لقد علمت قريش أني بنت سيدها‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً‏}‏‏:‏ جمع ‏"‏كنان‏"‏، الذي يغشى القلب ‏{‏أَنْ يَفْقَهُوهُ‏}‏ أي‏:‏ لئلا يفهموا القرآن ‏{‏وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا‏}‏ وهو الثقْل الذي يمنعهم من سماع القرآن سماعًا ينفعهم ويهتدون به‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ‏}‏ أي‏:‏ إذا وحَّدت الله في تلاوتك، وقلت‏:‏ ‏"‏لا إله إلا الله‏"‏ ‏{‏وَلَّوْا‏}‏ أي‏:‏ أدبروا راجعين ‏{‏عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا‏}‏ ونفور‏:‏ جمع نافر، كقعود جمع قاعد، ويجوز أن يكون مصدرًا من غير الفعل، والله أعلم، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 45‏]‏‏.‏

قال قتادة في قوله‏:‏ ‏{‏وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا‏}‏ إن المسلمين لما قالوا‏:‏ ‏"‏لا إله إلا الله‏"‏، أنكر ذلك المشركون، وكبرت عليهم، وضاقها إبليس وجنوده، فأبى الله إلا أن يمضيها وينصرها ويُفْلجها ويظهرها على من ناوأها، إنها كلمة من خاصم بها فلج، ومن قاتل بها نصر، إنما يعرفها أهل هذه الجزيرة من المسلمين، التي يقطعها الراكب في ليال قلائل، ويسير الدهر في فئام من الناس، لا يعرفونها ولا يقرّون بها‏.‏

قول آخر في الآية‏:‏ وروى ابن جرير‏:‏ حدثني الحسين بن محمد الذارع، حدثنا روح بن المسيب أبو رجاء الكلبي، حدثنا عمرو بن مالك، عن أبي الجوزاء، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا‏}‏ هم الشياطين‏.‏ هذا غريب جدًا في تفسيرها، وإلا فالشياطين إذا قرئ القرآن، أو نودي بالأذان، أو ذكر الله، انصرفوا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏46 - 47‏]‏

‏{‏نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلا رَجُلا مَسْحُورًا انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأمْثَالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلا‏}‏

يخبر تعالى نبيه -صلوات الله ‏[‏وسلامه‏]‏ عليه -بما تناجى به رؤساء كفار قريش، حين جاءوا يستمعون قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم سرًا من قومهم، بما قالوا من أنه رجل مسحور، من السّحر على المشهور، أو من ‏"‏السَّحْر‏"‏، وهو الرئة، أي‏:‏ إن تتبعون -إن اتبعتم محمدًا -‏{‏إِلا بَشَرًا‏}‏ يأكل ‏[‏ويشرب‏]‏ ، كما قال الشاعر‏:‏

فَإن تَسألينا فيم نَحْنُ فَإنَّنا *** عصافيرُ مِنْ هَذا الأنَام المُسَحَّر

وقال الراجز

ونُسْحَر بالطَّعام وبالشراب ***

أي‏:‏ نُغذى‏:‏ وقد صوب هذا القول ابنُ جرير، وفيه نظر؛ لأنهم إنما أرادوا هاهنا أنه مسحور له رئي يأتيه بما استمعوه من الكلام الذي يتلوه ومنهم من قال‏:‏ ‏"‏شاعر‏"‏، ومنهم من قال‏:‏ ‏"‏كاهن‏"‏، ومنهم من قال‏:‏ ‏"‏مجنون‏"‏، ومنهم من قال‏:‏ ‏"‏ساحر‏"‏؛ ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأمْثَالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلا‏}‏ أي‏:‏ فلا يهتدون إلى الحق، ولا يجدون إليه مخلصًا‏.‏

قال محمد بن إسحاق في السيرة‏:‏ حدثني محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، أنه حُدث أن أبا سفيان بن حرب، وأبا جهل بن هشام، والأخنس بن شَرِيق بن عمرو بن وهب الثقفي، حليف ابن زهرة، خرجوا ليلة ليستمعوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يصلي بالليل في بيته، فأخذ كل واحد منهم مجلسًا يستمع فيه، وكلُّ لا يعلم بمكان صاحبه، فباتوا يستمعون له، حتى إذا طلع الفجر تفرّقوا‏.‏ حتى إذا جمعتهم الطريق، فتلاوموا، وقال بعضهم لبعض‏:‏ لا تعودوا، فلو رآكم بعض سفهائكم لأوقعتم في نفسه شيئًا، ثم انصرفوا‏.‏ حتى إذا كانت الليلة الثانية عاد كل رجل منهم إلى مجلسه، فباتوا يستمعون له، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا حتى إذا جمعتهم الطريق فقال بعضهم لبعض مثل ما قال أول مرة، ثم انصرفوا‏.‏ حتى إذا كانت الليلة الثالثة، أخذ كل رجل منهم مجلسه، فباتوا يستمعون له، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا، فجَمعهم الطريق فقال بعضهم لبعض‏:‏ لا نبرح حتى نتعاهد لا نعود، فتعاهدوا على ذلك، ثم تفرقوا‏.‏

فلما أصبح الأخنس بن شَريق أخذ عصاه، ثم خرج حتى أتى أبا سفيان بن حرب في بيته، فقال‏:‏ أخبرني يا أبا حنظلة عن رأيك فيما سمعت من محمد‏؟‏ قال‏:‏ يا أبا ثعلبة، والله لقد سمعتُ أشياء أعرفها وأعرف ما يُراد بها، وسمعتُ أشياء ما عرفتُ معناها، ولا ما يراد بها‏.‏ قال الأخنس‏:‏ وأنا والذي حَلفت به‏.‏ قال‏:‏ ثم خرج من عنده حتى أتى أبا جهل، فدخل عليه بيته، فقال‏:‏ يا أبا الحكم، ما رأيك فيما سمعت من محمد‏؟‏ قال‏:‏ ماذا سمعتُ‏؟‏‏!‏ تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف‏:‏ أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا، حتى إذا تجاثينا على الرُّكب، وكنا كفَرَسي رِهان قالوا‏:‏ منا نبي يأتيه الوحي من السماء، فمتى ندرك هذه‏؟‏ والله لا نؤمن به أبدا ولا نصدقه‏.‏ قال‏:‏ فقام عنه الأخنس وتركه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏49 - 52‏]‏

‏{‏وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا‏}‏

يقول تعالى مخبرًا عن الكفار المستبعدين وقوع المعاد، القائلين استفهام إنكار منهم لذلك‏:‏ ‏{‏أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا‏}‏ أي‏:‏ ترابًا‏.‏ قاله مجاهد‏.‏ وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس‏:‏ غبارًا‏.‏

‏{‏أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ‏}‏ أي‏:‏ يوم القيامة ‏{‏خَلْقًا جَدِيدًا‏}‏ أي‏:‏ بعد ما بلينا وصرنا عدمًا لا يذكر‏.‏ كما أخبر عنهم في الموضع الآخر‏:‏ ‏{‏يَقُولُونَ أَئِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏ 10 -12‏]‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَضَرَبَ لَنَا مَثَلا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 78، 79‏]‏‏.‏

وهكذا أمر رسوله ههنا أن يجيبهم فقال‏:‏ ‏{‏قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا‏}‏ وهما أشد امتناعا من العظام والرفات ‏{‏أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ‏}‏ قال ابن إسحاق عن ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد‏:‏ سألت ابن عباس عن ذلك فقال‏:‏ هو الموت‏.‏

وروى عطية، عن ابن عمر أنه قال في تفسير هذه الآية‏:‏ لو كنتم موتى لأحييتكم‏.‏ وكذا قال سعيد بن جبير، وأبو صالح، والحسن، وقتادة، والضحاك‏.‏

ومعنى ذلك‏:‏ أنكم لو فرضتم أنكم لو صِرْتُم مَوْتًا الذي هو ضد الحياة لأحياكم الله إذا شاء، فإنه لا يمتنع عليه شيء إذا أراده‏.‏

وقد ذكر بن جرير ‏[‏هاهنا‏]‏ حديث‏:‏ ‏"‏يجاء بالموت يوم القيامة كأنه كَبْش أملح، فيوقف بين الجنة والنار، ثم يقال‏:‏ يا أهل الجنة، أتعرفون هذا‏؟‏ فيقولون‏:‏ نعم‏.‏ ثم يقال‏:‏ يا أهل النار، أتعرفون هذا‏؟‏ فيقولون‏:‏ نعم‏.‏ فيذبح بين الجنة والنار، ثم يقال‏:‏ يا أهل الجنة، خلود بلا موت، ويا أهل النار، خلود بلا موت‏"‏‏.‏

وقال مجاهد‏:‏ ‏{‏أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ‏}‏ يعني‏:‏ السماء والأرض والجبال‏.‏

وفي رواية‏:‏ ما شئتم فكونوا، فسيعيدكم الله بعد موتكم‏.‏

وقد وقع في التفسير المروي عن الإمام مالك، عن الزهري في قوله ‏{‏أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ‏}‏ قال‏:‏ النبي صلى الله عليه وسلم، قال مالك‏:‏ ويقولون‏:‏ هو الموت‏.‏

وقوله ‏[‏تعالى‏]‏ ‏{‏فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا‏}‏ أي‏:‏ من يعيدنا إذا كنا حجارة أو حديدًا أو خلقًا آخر شديدًا ‏{‏قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ‏}‏ أي‏:‏ الذي خلقكم ولم تكونوا شيئًا مذكورًا، ثم صرتم بشرًا تنتشرون؛ فإنه قادر على إعادتكم ولو صرتم إلى أي حال ‏{‏وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 27‏]‏‏.‏

وقوله ‏[‏تعالى‏]‏‏:‏ ‏{‏فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ‏}‏‏:‏ قال ابن عباس وقتادة‏:‏ يحركونها استهزاء‏.‏

وهذا الذي قالاه هو الذي تفهمه العرب من لغاتها؛ لأن الإنغاض هو‏:‏ التحرك من أسفل إلى أعلى، أو من أعلى إلى أسفل، ومنه قيل للظليم -وهو ولد النعامة -‏:‏ نغضًا؛ لأنه إذا مشى عَجل في مشيته وحَرَك رأسه‏.‏ ويقال‏:‏ نَغَضَت سنُه إذا تحركت وارتفعت من مَنْبَتها؛ قال‏:‏ الراجز‏.‏

ونَغَضَتْ مِنْ هَرَم أسنانها ***

وقوله‏:‏ ‏{‏وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ‏}‏ إخبار عنه بالاستبعاد منهم لوقوع ذلك، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 25‏]‏ ، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهَا‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 18‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا‏}‏ أي‏:‏ احذروا ذلك، فإنه قريب إليكم، سيأتيكم لا محالة، فكل ما هو آت آت‏.‏

وقوله ‏[‏تعالى‏]‏ ‏:‏ ‏{‏يَوْمَ يَدْعُوكُمْ‏}‏ أي‏:‏ الرب تعالى ‏{‏إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الأرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 25‏]‏ أي‏:‏ إذا أمركم بالخروج منها فإنه لا يُخالَف ولا يُمَانع، بل كما قال ‏[‏تعالى‏]‏ ‏{‏وَمَا أَمْرُنَا إِلا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏ 50‏]‏‏{‏إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 40‏]‏ وقال ‏{‏فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ‏.‏ فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏ 13، 14‏]‏ أي‏:‏ إنما هو أمر واحد بانتهار، فإذا الناس قد خرجوا من باطن الأرض إلى ظاهرها كما قال‏:‏ ‏{‏يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ‏}‏ أي‏:‏ تقومون كلكم إجابة لأمره وطاعة لإرادته‏.‏

قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ‏}‏ أي‏:‏ بأمره‏.‏ وكذا قال ابن جريج‏.‏

وقال قتادة‏:‏ بمعرفته وطاعته‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ ‏{‏يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ‏}‏ أي‏:‏ وله الحمد في كل حال، وقد جاء في الحديث‏:‏ ‏"‏ليس على أهل ‏"‏لا إله إلا الله‏"‏ وحشة في قبورهم، وكأني بأهل ‏"‏لا إله إلا الله‏"‏ يقومون من قبورهم ينفضون التراب عن رءوسهم، يقولون‏:‏ لا إله إلا الله‏"‏‏.‏ وفي رواية يقولون‏:‏ ‏{‏الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 34‏]‏ وسيأتي في سورة فاطر ‏[‏إن شاء الله تعالى‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَتَظُنُّونَ‏}‏ أي‏:‏ يوم تقومون من قبوركم ‏{‏إِنْ لَبِثْتُمْ‏}‏ ‏[‏أي‏]‏‏:‏ في الدار الدنيا ‏{‏إِلا قَلِيلا‏}‏، وكما قال‏:‏ ‏{‏كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏ 46‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا عَشْرًا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا يَوْمًا‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 102 -104‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 55‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأرْضِ عَدَدَ سِنِينَ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا قَلِيلا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 112 -114‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏53‏]‏

‏{‏وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا‏}‏

يأمر تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يأمر عباد الله المؤمنين، أن يقولوا في مخاطباتهم ومحاوراتهم الكلام لأحسن والكلمة الطيبة؛ فإنه إذ لم يفعلوا ذلك، نزغ الشيطان بينهم، وأخرج الكلام إلى الفعال، ووقع الشر والمخاصمة والمقاتلة، فإن الشيطان عدو لآدم وذريته من حين امتنع من السجود لآدم، فعداوته ظاهرة بينة؛ ولهذا نهى أن يشير الرجل إلى أخيه المسلم بحديدة، فإن الشيطان ينزغ في يده، أي‏:‏ فربما أصابه بها‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا عبد الرزاق، حدثنا مَعْمر، عن همام، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏لا يشيرنّ أحدكم إلى أخيه بالسلاح، فإنه لا يدري أحدكم لعل الشيطان أن ينزع في يده، فيقع في حفرة من نار‏.‏ أخرجاه من حديث عبد الرزاق‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا عفان، حدثنا حماد، أنبأنا علي بن زيد، عن الحسن قال‏:‏ حدثني رجل من بني سَلِيط قال‏:‏ أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو في أزْفَلَة من الناس، فسمعته يقول‏:‏ ‏"‏المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله، التقوى هاهنا -‏[‏قال حماد‏:‏ وقال بيده إلى صدره -ماتواد رجلان في الله فتفرَّق بينهما إلا بحدث يحدثه أحدهما‏]‏ والمحدث شَر، والمحدث شر، والمحدث شر‏"‏‏.‏